ثقافة العولمة وعولمة الثقافة
يسود شبه إجماع في أوساط النخب السياسية والمالية والثقافية في المجتمعاتالهامشية والتيارات الأيديولوجية المناصرة لأطروحتها في المجتمعات المحورية، يجرمالعولمة كحتمية تاريخية ويحذر من أخطار انعكاساتها على السياسة والاقتصاد والهويةالثقافة والحضارية وعلى جميع مناحي الحياة بهذه المجتمعات المقبلة على استهلاكمنتجات العولمة بنهم وشراسة.
يطلق القادة السياسيون والموالون لهم في المجتمعاتالمدنية، في كل مناسبة وبغير مناسبة، صفارات الإنذار المدوية والمحذرة من الأخطارالمحدقة بمجتمعاتهم جراء تدفق المعلومات والسلع والخدمات والقيم الثقافية للأممالمنتجة عبر الطرق السريعة للعولمة، ويلصقون بمصادر هذه التدفقات جميع أنصاف التهمالقانونية والدينية والأخلاقية.
يبدو أن الخطابات المناوئة للعولمة تعيد إنتاجوتسويق المضامين الإيديولوجية الشيوعية المعادية "للإمبريالية" العالمية و"الرجعية" الداخلية المتحالفة معها، حتى يخيل للمرء أن من ينتج العلم والمعرفة والقيمالحقوقية الإنسانية ويسوق المواد الغذائية والملابس وجميع أسباب الراحة بأسعارمنخفضة في متناول أغلبية الناس، هم"شياطين" غربية متربصة بالبشرية الضعيفة، وأن منينتج الأوهام ويوزع الوعود والأحلام، ويعمل على تجويع الناس واستعبادهم وتهجيرهمعبر الصحاري القاحلة والمحيطات المظلمة ويوفر لهم جميع أسباب الجحيم على الأرض...هم "ملائكة" سيشفعون للمطيعين منهم بدخول الجنة في السماء!!!
قد يكون هذا النمطمن التفكير غير المتحرر، أحيانا عفويا ناجما عن سذاجة أو غفلة، ولكنه لا يبرر هذهالنظرة التشاؤمية الشاملة للعولمة وكأنها الشر كله، في حين أنها في حد ذاتها الخير كله. جوانبها المظلمة تكمن في النيات المعلنة والمتسترة للمتحكمين في زمام أمورها،والذين يعملون على تحقيق أهدافهم الاستراتيجية التي قادت منذ عقود إلى توفير أسباتهذه العولمة والشروع في تجسيدها ميدانيا. ليست تلك الأهداف دائما في انسجام مع ما تطمع إليه النخب النافذة في الطرف الآخر، بل هي غالبا في تناقض معها، ولكنها ليستبالضرورة لا غية لمصالح عامة الناس في هذا الطرف الآخر، مقارنة بالتباين الصارخ بينمصالح الحكام المحكومين في البلدان الهامشية.
تعمل هذه الخطابات التحذيرية علىخلق وترسيخ ارتباك عام وتوجس من"الفيروسات" المتسللة عبر برامج الفضائيات ومواقعالواب وصناديق البريد الإليكتروني وأنظمة الرسائل القصيرة لشبكات الهواتف الخلوية،وغيرها من الطرقات الافتراضية السريعة التي أنشأتها العولمة، وتركز بصفة خاصة علىقوتها البالغة السحرية في إلغاء خصوصيات الهوية المحلية لحساب ثقافة العولمةالجارفة.
صحيح أن قيم ثقافة العولمة قوية بقوة المنتجين والمشرفين على تعميمها،ولكن الدعوة إلى مقاومتها تبدو غير مجدية وخاصة غير مفيدة، طالما أن قدرة الجذبأقوى من قوة التنافر، خاصة وأنها لا تفرض بقوة السلاح، كما كان الشأن مع الغزواتالاستعمارية، ولكن بقوة العلم والتكنولوجيا. حييث تسود سلطة العلم والمعرفة تنتفيعلة المقاومة وتحل محلها التزامات التكييف والملاءمة والتعايش بين القيم والاعترافالمتبادل، ويمكن بالتالي للهويات المحلية أن تتعولم وتعرف بفضائلها ومحاسنها التييمكنها بقوتها الإنسانية أن تعوض سيئات ثقافة العولمة اللا إنسانية.
إن الهويةالثقافية لجماعة محلية أو شعب أو أمة من الأمم، في سياق الجغرافيا الثقافية فيعلاقاتها مع قضايا العولمة، هي السمات الثابتة الجوهرية المشترك بين عامة الناس،التي تميز انتمائهم الحضاري عن غيره من الانتماءات الأخرى، والعولمة، كصيرورة ونمطمعيشي معلن للملإ، من شأنها أن تؤدي إلي مزيد من الوعي بالخصوصية الثقافيةوالحضارية للشعوب، وإن كان ذلك يخيف المؤمنين بصراع الحضارات الذين يلبسون صراعمصالح النخب النافذة رداء حضاريا لكسب ود الشعوب وتأييدها.
ثقافة العولمة التييعتبروها غازية ولاغية للثقافات المحلية والوطنية لا يمكن فهمها إلا من خلال مفهومهذه الأخيرة التي تتكون من جميع أساليب وأنماط السلوك والأفكار والرموز والفنونالتي تتوفر لشعب معين في بقعة جغرافية معينة. أما حيث الفراغ الذي يصعب تصوره فيهذه الحقبة من تاريخ البشرية، فإن ثقافة العولمة تتجاوز الثقافات الوطنية وتتخطىالحدود الجغرافية والسياسية وتنتشر من خلال قنوات تدفق السلع والأفراد والمعلوماتوالمعرفة والصور.
يتضمنها غالبا خطاب تقني وعملي وتتحرك في جميع الاتجاهات عبروسائط الاتصال الحديثة بحسابات خلوية دقيقة، وهي في مرحلتها الأولية هذه، نخبويةرغم ميلها الدائم نحو الجمهرة، تفرض من أعلي وتفتقد لقاعدة تعبر عن حاجات محلية ولاتلتزم بأشكال ومضمون التراث الثقافي التي تنتقي ما يعززها وما يساعد على تمركزالقوة التي ليست هنا سياسية وحسب، ولكنها أيضا وخاصة قوة التكنولوجيا المرتبطةبالمشروعات الصناعية ذات الصبغة الكونية كشبكات الحاسوب والإنترنات، تعمل على خلقنماذج وصيغة موحدة عبر العالم وتدعم نظام الصور الذهنية لموضوعات لها علاقة مباشرةأو غير مباشرة بالاستهلاك الذي لا يقتصر على الأكل واللباس ولكنه يتجاوزه إلى أشكالالتفاعل الفردي والجماعي مع الوسائل التكنولوجية المتجددة مثل الكمبيوتر والأنترناتووسائل التسلية والترفيه الأخرى.
إذا كان هناك من وجه و سبيل لمقاومة هذهالقدرية التكنولوجية لثقافة العولمة، فلن يكون من خلال خطب مشحونة أيديولوجيا،وإنما من خلال من التعامل الهادئ مع الظاهرة بنفس المنهجية التي أوجدتها، منهجيةالعلم والمعرفة، قوة "الآخر" التي تتناسب طردا مع ضعف"الأنا".
Publié le 11/05/2010 à 19h12
يطلق القادة السياسيون والموالون لهم في المجتمعاتالمدنية، في كل مناسبة وبغير مناسبة، صفارات الإنذار المدوية والمحذرة من الأخطارالمحدقة بمجتمعاتهم جراء تدفق المعلومات والسلع والخدمات والقيم الثقافية للأممالمنتجة عبر الطرق السريعة للعولمة، ويلصقون بمصادر هذه التدفقات جميع أنصاف التهمالقانونية والدينية والأخلاقية.
يبدو أن الخطابات المناوئة للعولمة تعيد إنتاجوتسويق المضامين الإيديولوجية الشيوعية المعادية "للإمبريالية" العالمية و"الرجعية" الداخلية المتحالفة معها، حتى يخيل للمرء أن من ينتج العلم والمعرفة والقيمالحقوقية الإنسانية ويسوق المواد الغذائية والملابس وجميع أسباب الراحة بأسعارمنخفضة في متناول أغلبية الناس، هم"شياطين" غربية متربصة بالبشرية الضعيفة، وأن منينتج الأوهام ويوزع الوعود والأحلام، ويعمل على تجويع الناس واستعبادهم وتهجيرهمعبر الصحاري القاحلة والمحيطات المظلمة ويوفر لهم جميع أسباب الجحيم على الأرض...هم "ملائكة" سيشفعون للمطيعين منهم بدخول الجنة في السماء!!!
قد يكون هذا النمطمن التفكير غير المتحرر، أحيانا عفويا ناجما عن سذاجة أو غفلة، ولكنه لا يبرر هذهالنظرة التشاؤمية الشاملة للعولمة وكأنها الشر كله، في حين أنها في حد ذاتها الخير كله. جوانبها المظلمة تكمن في النيات المعلنة والمتسترة للمتحكمين في زمام أمورها،والذين يعملون على تحقيق أهدافهم الاستراتيجية التي قادت منذ عقود إلى توفير أسباتهذه العولمة والشروع في تجسيدها ميدانيا. ليست تلك الأهداف دائما في انسجام مع ما تطمع إليه النخب النافذة في الطرف الآخر، بل هي غالبا في تناقض معها، ولكنها ليستبالضرورة لا غية لمصالح عامة الناس في هذا الطرف الآخر، مقارنة بالتباين الصارخ بينمصالح الحكام المحكومين في البلدان الهامشية.
تعمل هذه الخطابات التحذيرية علىخلق وترسيخ ارتباك عام وتوجس من"الفيروسات" المتسللة عبر برامج الفضائيات ومواقعالواب وصناديق البريد الإليكتروني وأنظمة الرسائل القصيرة لشبكات الهواتف الخلوية،وغيرها من الطرقات الافتراضية السريعة التي أنشأتها العولمة، وتركز بصفة خاصة علىقوتها البالغة السحرية في إلغاء خصوصيات الهوية المحلية لحساب ثقافة العولمةالجارفة.
صحيح أن قيم ثقافة العولمة قوية بقوة المنتجين والمشرفين على تعميمها،ولكن الدعوة إلى مقاومتها تبدو غير مجدية وخاصة غير مفيدة، طالما أن قدرة الجذبأقوى من قوة التنافر، خاصة وأنها لا تفرض بقوة السلاح، كما كان الشأن مع الغزواتالاستعمارية، ولكن بقوة العلم والتكنولوجيا. حييث تسود سلطة العلم والمعرفة تنتفيعلة المقاومة وتحل محلها التزامات التكييف والملاءمة والتعايش بين القيم والاعترافالمتبادل، ويمكن بالتالي للهويات المحلية أن تتعولم وتعرف بفضائلها ومحاسنها التييمكنها بقوتها الإنسانية أن تعوض سيئات ثقافة العولمة اللا إنسانية.
إن الهويةالثقافية لجماعة محلية أو شعب أو أمة من الأمم، في سياق الجغرافيا الثقافية فيعلاقاتها مع قضايا العولمة، هي السمات الثابتة الجوهرية المشترك بين عامة الناس،التي تميز انتمائهم الحضاري عن غيره من الانتماءات الأخرى، والعولمة، كصيرورة ونمطمعيشي معلن للملإ، من شأنها أن تؤدي إلي مزيد من الوعي بالخصوصية الثقافيةوالحضارية للشعوب، وإن كان ذلك يخيف المؤمنين بصراع الحضارات الذين يلبسون صراعمصالح النخب النافذة رداء حضاريا لكسب ود الشعوب وتأييدها.
ثقافة العولمة التييعتبروها غازية ولاغية للثقافات المحلية والوطنية لا يمكن فهمها إلا من خلال مفهومهذه الأخيرة التي تتكون من جميع أساليب وأنماط السلوك والأفكار والرموز والفنونالتي تتوفر لشعب معين في بقعة جغرافية معينة. أما حيث الفراغ الذي يصعب تصوره فيهذه الحقبة من تاريخ البشرية، فإن ثقافة العولمة تتجاوز الثقافات الوطنية وتتخطىالحدود الجغرافية والسياسية وتنتشر من خلال قنوات تدفق السلع والأفراد والمعلوماتوالمعرفة والصور.
يتضمنها غالبا خطاب تقني وعملي وتتحرك في جميع الاتجاهات عبروسائط الاتصال الحديثة بحسابات خلوية دقيقة، وهي في مرحلتها الأولية هذه، نخبويةرغم ميلها الدائم نحو الجمهرة، تفرض من أعلي وتفتقد لقاعدة تعبر عن حاجات محلية ولاتلتزم بأشكال ومضمون التراث الثقافي التي تنتقي ما يعززها وما يساعد على تمركزالقوة التي ليست هنا سياسية وحسب، ولكنها أيضا وخاصة قوة التكنولوجيا المرتبطةبالمشروعات الصناعية ذات الصبغة الكونية كشبكات الحاسوب والإنترنات، تعمل على خلقنماذج وصيغة موحدة عبر العالم وتدعم نظام الصور الذهنية لموضوعات لها علاقة مباشرةأو غير مباشرة بالاستهلاك الذي لا يقتصر على الأكل واللباس ولكنه يتجاوزه إلى أشكالالتفاعل الفردي والجماعي مع الوسائل التكنولوجية المتجددة مثل الكمبيوتر والأنترناتووسائل التسلية والترفيه الأخرى.
إذا كان هناك من وجه و سبيل لمقاومة هذهالقدرية التكنولوجية لثقافة العولمة، فلن يكون من خلال خطب مشحونة أيديولوجيا،وإنما من خلال من التعامل الهادئ مع الظاهرة بنفس المنهجية التي أوجدتها، منهجيةالعلم والمعرفة، قوة "الآخر" التي تتناسب طردا مع ضعف"الأنا".
Publié le 11/05/2010 à 19h12